-->

المحاسبة اون لاين

آخر الأخبار

مذكرات محاسب: رحلة البداية المهنية

 

مذكرات محاسب: رحلة البداية المهنية

الحلقة الأولى: خطواتك الأولى نحو النجاح المهني

تتشابك الأفكار وتتزاحم التساؤلات في ذهن كل خريج جديد يقف على أعتاب الحياة العملية، حاملاً شهادته الجامعية بين يديه، متطلعاً إلى مستقبل مهني مشرق، لكنه محاط بضباب الحيرة والتردد. "من أين أبدأ؟" سؤال يتردد صداه في أروقة عقول الخريجين الجدد من كليات التجارة والمحاسبة، وتتفرع منه أسئلة أخرى لا حصر لها.

هل أسعى للعمل في أحد المكاتب المهنية المتخصصة في المحاسبة، وأتحمل سنوات من العمل بمقابل مادي متواضع، على أمل الحصول على لقب محاسب قانوني في المستقبل؟ أم أتجه مباشرة إلى إحدى الشركات الكبرى التي تقدم رواتب أعلى، رغم أن الفائدة المهنية والعلمية قد تكون أقل؟ وماذا عن الدورات التدريبية؟ ما أنواعها؟ وأين يمكنني الحصول عليها؟ وكيف ستساهم في تطوير مساري المهني؟

هذه التساؤلات وغيرها تشكل هاجساً يؤرق الخريج الجديد، لكن دعنا نتوقف قليلاً ونعود بالزمن إلى الوراء، إلى سنوات الدراسة الجامعية. ما الذي فعلته خلال تلك الفترة؟ هل كنت ممن يؤجلون كل ما يتعلق بالحياة العملية إلى ما بعد التخرج؟ هل استثمرت الإجازات الصيفية في تنمية مهاراتك وتطوير ذاتك؟ أم كنت ترى في تلك الإجازات فرصة للراحة والاسترخاء فقط؟

الحقيقة التي يجب أن ندركها جميعاً هي أن الحياة العملية لا تبدأ بعد التخرج، بل تبدأ من اليوم الأول في الجامعة. فالجامعة ليست مجرد محطة للحصول على الشهادة، بل هي الجسر الذي يربط بين مرحلة الدراسة النظرية والانخراط في سوق العمل. إنها البوتقة التي تتشكل فيها شخصيتنا المهنية وتُصقل فيها مهاراتنا الأساسية.

خلال العطلات الصيفية، كان بإمكانك تنمية مهاراتك في اللغات الأجنبية، أو الالتحاق بدورات تدريبية في مجال الحاسب الآلي، أو حتى التطوع في أعمال تمنحك خبرة عملية أولية. لكن الكثيرين منا يقعون في فخ التسويف والتأجيل. نقول لأنفسنا: "سأفعل ذلك بعد الامتحانات"، وبعد الامتحانات نقول: "الإجازة للراحة"، وهكذا تمر السنوات، ونجد أنفسنا بعد التخرج نواجه إجراءات التجنيد (للشباب)، ونؤجل مرة أخرى كل ما يتعلق بالحياة المهنية، لنكتشف في النهاية أننا أضعنا سنوات ثمينة كان يمكن استثمارها في بناء مستقبلنا.

الوقت الذي يمر دون اكتساب معرفة أو مهارة هو وقت ضائع لا يمكن استعادته. فماذا عليك أن تفعل الآن كخريج جديد يبدأ رحلته العملية؟ الإجابة، بلغة المحاسبة، هي أن تقوم بعملية "جرد شامل" لمهاراتك وقدراتك وخبراتك. ما الذي تجيده؟ ما الذي تعرفه؟ وما الذي ينقصك لتبدأ مسيرتك المهنية؟

ليست القضية من أين تبدأ، بل إلى أين ستصل. فأي وظيفة، مهما كانت بسيطة، تمنحك خبرة ومهارة جديدة، بالإضافة إلى العائد المادي. وقد يكون هذا العائد غير مُرضٍ للبعض، بينما يراه آخرون كافياً ومجزياً، وهذا يعتمد على ظروف كل شخص وتطلعاته.

ما يجب أن تدركه هو أن أي عمل يمنحك ثلاثة أنواع من المهارات على الأقل. أولاً، المهارات المتخصصة في المجال الذي تعمل فيه، سواء كانت محاسبية أو إدارية أو غيرها. ثانياً، مهارات التعامل مع الآخرين، فأنت في أي بيئة عمل ستتفاعل مع مديرين وزملاء وعملاء، وهذا يصقل قدرتك على التواصل الفعال والعمل ضمن فريق. ثالثاً، مهارات التعامل مع الحياة بشكل عام، من تنظيم وقتك وإدارة مصروفاتك إلى تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات.

قد تتساءل: "هل أبدأ بأي عمل متاح الآن، أم أنتظر حتى أجد الفرصة المناسبة؟" الإجابة تعتمد على ظروفك الشخصية. هل يمكنك البقاء بدون عمل لفترة؟ ما حجم المسؤوليات العائلية الملقاة على عاتقك؟ ما مدى الدعم الذي تتلقاه من عائلتك، سواء كان مادياً أو معنوياً؟

من وجهة نظري، الأفضل أن تعمل في أي مجال متاح حالياً، بدلاً من البقاء عاطلاً في انتظار الفرصة المثالية. فالعمل، أي عمل، يمنحك فرصة للتعلم والنمو، ويبقيك متصلاً بسوق العمل، ويفتح أمامك آفاقاً جديدة قد لا تكون متوقعة.

أؤمن بأنه لا حدود للطموح البشري، وأن المهم هو أن تبدأ، أن تخطو الخطوة الأولى في مشوار الألف ميل. فعندما تتحرك، ولو خطوة واحدة، تكون قد اقتربت من هدفك. وعندما تلتحق بدورة تدريبية أو تبدأ في تطوير مهاراتك، لا يهم من أين تبدأ، المهم أن تتخذ القرار وتضع قدميك على بداية الطريق.

التسويف والتأجيل لن يفيداك، بل سيزيدان من حجم التحديات التي تواجهك. ربما تسأل نفسك: "من أين يمكنني أن أتعلم؟" لحسن الحظ، نحن نعيش في عصر المعلومات، حيث تتوفر مصادر التعلم بشكل لم يسبق له مثيل. الإنترنت يزخر بالمواقع التي تقدم دورات تدريبية في مختلف المجالات، بعضها مجاني وبعضها بتكلفة معقولة. هناك منصات تعليمية متخصصة، ومنتديات مهنية، ومدونات، ومواقع تواصل اجتماعي تركز على التطوير المهني.

كما أن هناك جامعات عالمية تتيح بعض موادها التعليمية مجاناً عبر الإنترنت، بالإضافة إلى الكتب والمراجع المتخصصة في مجال المحاسبة والإدارة المالية. المهم هو أن تقرر أن تتعلم، وأن تدرك أن التعليم عملية مستمرة لا تنتهي بالتخرج من الجامعة.

في الواقع، عندما تظن أنك تعلمت كل شيء، فهذا يعني أنك لم تتعلم شيئاً بعد. فالتطوير والتغيير مستمران، والمعرفة تتجدد يوماً بعد يوم، والمهارات التي كانت مطلوبة بالأمس قد تصبح قديمة اليوم، وتظهر مهارات جديدة يجب إتقانها.

وإلى هنا نصل إلى ختام الحلقة الأولى من "مذكرات محاسب". في الحلقات القادمة، سنتناول جوانب أخرى من الحياة المهنية للمحاسب، ونستعرض تجارب عملية وقصص نجاح ملهمة، ونقدم نصائح أكثر تفصيلاً حول كيفية بناء مسار مهني ناجح في عالم المحاسبة والمال والأعمال.

تذكر دائماً: الرحلة تبدأ بخطوة، والنجاح يبدأ بقرار. فاتخذ قرارك اليوم، وابدأ رحلتك نحو مستقبل مهني مشرق.

التعليقات:

أضف تعليقاً: